رب صدفة خير من ألف ميعاد , مقولة حقيقية تجسد عن حق ترتيبات القدر .. ليس كل مجنون فنان , ولكن بالضرورة كل فنان به مس ما من الجنون !
وقفت في شرفة عيادتي أرقب شابا يسير علي الرصيف المقابل وهو يحمل آلة العود علي ظهره ويمشي في كبرياء جميل خالي من الغرور , فأنا أكن تقديرا كبيرا لأى فنان وبخاصة لمن يحب الموسيقي , لانها تسمو بالروح , وكما قيل سابقا حينما يرقي الحيوان يتحول لإنسان وحينما يرقي الإنسان يتحول لفنان ! تخيلت أنه ذاهب الآن إلي ـ حي الزمالك حيث توجد كلية الفنون الجميلة .
كانت هذه هي الجملة التي تحمل كل المعاني في نفسي والتي حركت ذكريات كثيرة , أبسط وصف لها هو ـ الجميلة ـ
في فترة ما من فترات الشباب سيطرت علي ذهني فكرة دراسة الموسيقي , وشجعني علي هذا تذوقي وحبي الشديد لها , وما أن حصلت علي شهادة الثانوية العامة , حتى بدأت في اتخاذ خطوات جدية لدراستها
وافقت علي مضض علي تنفيذ نصائح أبي وأمي , وتنازلت عن أحلامي في دراسة الموسيقي بأفرعها المختلفة من عزف وقراءة نوتة طواعية المُكره بعد أن أبديا تذمرهما الشديد وحذراني من مغبة الإقدام علي هذه الخطوة لأنها ستجعلني أتلهي عن المستقبل الذي خطاه لي .
أنهيت دراستي الجامعية علي خير ونلت شهادة البكالوريوس ثم استحكم بي الشوق والحنين فعدت أدراجي أبحث عن تحقيق حلمي القديم فبدأت الدراسات الحرة في معهد الموسيقي العربية الكائن بمنطقة الإسعاف .. تخطيت العام الأول بنجاح
في أحد الأيام كنت أجلس في كافيتريا المعهد في الدور الأرضي …..
وقف أحد الزملاء القدامى والبارعين في العزف علي آلة العود علي باب الكافيتريا وأشار بسبابته ناحيتي وقد مال علي أذني صديقه المزايل بجسده خلفه دونما رأسه البارز من انفراجة باب الكافيتريا الذي لم يكن يسمح بعبور جسدين لحيمين في آن واحد وقال : الدكتور “محمد” يجلس هناك !
جال طرف صديقه بين الموائد المتواضعة إلي أن التقت أعيننا , تقدم صديقي المسير وتبعه في خطوات عجلة صاحبه , هممت أن أقف لأرحب بهما , نهرني بلطف صديقي وقال لن نأخذ من وقتك الكثير , ولكن لصديقي أمر ما يريد أن يستشيرك فيه .
ظننت في البداية أن أمر الاستشارة هذا يتعلق بفائدة دواء معين أو أمر يتعلق بمجال دراسة الطب
ـ أجلسا أولا ..
ألقي صديقه بجسده علي الكرسي المقابل لي كأنما كان يحمل أثقالا علي كتفيه وناء بحملها وأراد أن يتخلص منها بعدما عثر عليَّ , أما “عبد الحميد” فباغتني بطلب الانصراف متعللا بأن وراءه الكثير عليه إنجازه فقال :
ـ صديقي “رؤوف صبرى” يريد أن يتحدث معك في أمر شخصي ” مشكلة يمر بها ولم يجد لها حلا إلي الآن , أنا أثق أن الحل سيكون عندك لذا سأترككم الآن .. ولم ينتظر “عبد الحميد”حتى يسمع الرد وقال : وهو يمشي خارجا وابتسامة مرسومة علي جانب فمه لم أفهم معناها إلا بعد حين .. سأراك لاحقا !
جلس “رؤوف صبرى” شاب في أواخر العشرينيات , لم أكن التقيه كثيرا من قبل , وجه مجدور أسمر البشرة متوسط الطول وسيماءه تكشف عن الكثير مما يجثم علي صدره , أخذ شهيقا ثم زفره بحدة ثم أشعل سيجارة ونفث دخانها عاليا وقال وهو يجيل الطرف حوله ويستعد لإلقاء ما في جوفه علي مسامعي وكأنه سيلقي بقنبلة شديدة الانفجار وهو ما كان .
ـ أتحب أن أمهد أم أعرض عليك الموضوع مباشرة وباختصار؟
قالها وهو يستعرض بعينيه النفر القليل الجالس في المكان
ـ لست في حاجة للتمهيد يا ” رؤوف ” أنت أخ كبير
رد قائلا وهو يقطب جفنيه ويختلس نظرة بجانب عينيه لوجهي كأنما يدرس ساحة معركة ويريد أن يتعرف علي كل كبيرة وصغيرة بها استعدادا لما سيقوم به وقبل أن يلقي بما في جعبته
ـ علي فكرة , أنا حاسس أنك زي أخي الأصغر وهذا ما شجعني علي الحديث معك !
ـ خير إن شاء الله , قلتها وكل ما جال بخاطري في هذه الآونة هو أن يكون “رؤوف” يحتاج إلي مال ويشعر بالحرج من طلبها , فالعلاقة بيننا لم تكن قوية إلي الحد الذي يسمح له بطلب مساعدة ما , فتنهد قليلا ثم سألني :
ـ أنت متزوج ؟
ـ لا ..ولكن لماذا هذا السؤال ؟
ـ ألا تريد أن تتزوج ؟
ـ في الحقيقة لا أفكر في هذا الأمر الآن , لماذا ..؟
ـ لك عندي عروسة !
حينما أدرك أن إحساسي بأنه يسخر مني قد بدأ يتملكني قال مستدرجا :
ـ إنها فتاة تعيسة ! وتريد أن تعيش
كان ردي قاطعا بلهجة رهيفة متعللا بعدم وجود إمكانيات في الوقت الحالي
ـ ليس لي مصدر دخل سوى مرتبي وهو لن يفي بمتطلبات الزواج من الشبكة والمهر وخلافه .
وفي رد فعل مباغت كمن يُضيق عليك الخناق كي لا يدع لك فرصة للفكاك قال :
ـ أليس معك حتى مبلغ صغير من المال ؟ أو حتى تعرف كيف تتحصل عليه ؟
وفي إجابة مقتضبة وكأنها لا تحتاج إلي تروي في الرد , وكأنها جاهزة علي طرف لساني قلت : لا
ثم ألحقت إجابتي بسؤال :
ـ من تلك التي من الممكن أن أتزوجها بهذا المبلغ البسيط ؟ هل عاد بنا الزمن للوراء عشرات السنون
ـ مراتى !
توقف “عبد الحميد” عن الكلام وقد أحمرت أوداجه من الغضب , ما أن رأي النادل يقف علي رأس المائدة وهو يستعرض المشروبات المتاحة , ما دعاني لأن أصرفه .
وفي لهفة سألته أن يكمل حديثه وكل ما خطر ببالي أن زوجه تبحث عن عريس لأختها أو لأحدي قريباتها , لذا وقع اختياره عليَّ .
أخذ نفسا عميقا من سيجارته ثم رفع ناظريه لأعلي ونفث دخانها وقال :
ـ أنا أخترتك لكي تتزوج من زوجتى !
سقطت هذه الكلمة علي رأسي وليس علي مسامعي فقط كالصاعقة , فلم تكن العلاقة بيني وبين “رؤوف صبري” قوية إلي الدرجة التي تمكنه من طرح هذا الموضوع الغريب بهذه البساطة , عقدت المفاجأة لساني إلا من قول :
ـ أنت تقصد شقيقة زوجتك !
وفي حدة كمن فقد صبره أو كاد قال : ليس لزوجي شقيقة وأنا أعرف أن الموضوع شائك ولكن حينما تُمعن في التفاصيل سوف ينجلي الغموض ويغادر عينيك الدهش !
كانت أجابته أكثر من صادمة , كان يجلس أمامي طارحا قدما فوق الأخرى , وحينما اتهمته بالتفكهة أعتدل في جلسته ومال عليَّ بجذعه وقال هامسا :
ـ أقسم بالله أتحدث بغاية الجِد !
كان قسمه “بالقدير” مزيلا لأي شك في أنه يتحدث عن حقيقة لا ريب فيها فاعتدلت في جلستي وقلت في نفسي : لقد أقسم أنه سيتكلم بجِد بالغ فطلبت الإيضاح فمسحت براحة يدي اليمني صفحة وجهي وقلت في شغف :
ـ لا أرجوك.. واحدة واحدة أرجوك .. من فضلك ليس هذا وقت الهزر أو التفكه
فقال وكأنه يستجير بالرمضاء من النار
ـ يا “محمد” لا أحبها .. ولا أطيقها .. بل أكرهها .. أكرهها بشدة
وبتعجب شديد وبسذاجة غير المصدق لما يسمع سألته :
ـ عما تتحدث ؟
كانت أجابته علي سؤالي أكثر من صادمة
ـ زوجتي .. زوجتى يا”محمد” واستطرد وكأنه يريد أن ينتزع موافقتي علي الزواج من امرأته ـ بعد أن يفارقها طبعا ـ حتى ولو كانت موافقتي ليست إلا بدافع الشفقة فقال : لا يكاد يمر يوم إلا وأنهال عليها ضربا مبرحا !
ظننت في البداية أنه لا يعني ما يقول , وأن كلمة الاعتداء البدني التي ترددت علي لسانه ليست سوى الحاجة إلي المبالغة في بعض الأحاديث عامة لجلب الشفقة ليس إلا , أحيانا يلجأ المحاور إلي هذا الأسلوب لإقناع محدثه ـ بما يريد ـ بأقصر طريق ممكن وفي أقل مدة زمنية ـ وبخاصة عندما يعرض قضية ما صعبة الفهم .
كانت الإجابة التقليدية التي جرت علي لساني هي :
ـ الطلاق ملاذا لك ولها إن استحالت العشرة بينكما !
ـ أري الآن أن أمر الطلاق صعبا للغاية , أتريدني أن أطلقها وألقي بها للذئاب في الطريق !
كانت هذه احدي الأساليب المطلوبة في إقناع الضحية بقبول الأمر , وأعني الهجوم بأسلوب يدفع الضحية التي هي ـ أنا ـ للإحساس بتأنيب الضمير بعدما أُلصقت به تهمة قسوة القلب وحدة المشاعر , حتى وإن كانت التهمة الملقاة في غير محل لها من الإعراب .
نعم .. لقد تسرب إلي نفسي لوهلة تأنيب ولوم من أنني قد فكرت بهذا القدر من الهمجية , كيف تأتي لي أن أشير عليه بأن يلقي بزوجه إلي الشارع لتكون ضحية للذئاب الضالة .
كما قلت أُخِذت بهذا العتاب لوهلة ولكني ثُبت لرشدي , فانتبهت علي سيطرة ما من عقلي علي نقاط ضعف نفسي .
أدركت حينها هذا الشرك الذي يدفعني إليه “رؤوف” بقوة .. غير عابئ بما سيحدث لي بعدها !
قطبت عيناي وكأني أحاول استعادة رباطة جأشي وقلت نافضا عن نفسي ما وصله من معني بإلقاء زوجه إلي الطريق , أنا لم أكن أعني ما تحاول إلصاقه بي : بل أعني أن تعيدها لأهلها
وفي محاولة منه لإغلاق كافة طرق الفرار والفكاك أمامي قال في حدة : ليس لها أحد غيري , وأنا لا أريدها زوجا لي !
تنهد صديقي المضطرب ثم التفت ناحية اليمين والشمال ومال برأسه عليَّ ووضع مرفقيه علي المائدة التي تفصل بيننا وقال في شبه همس وهو مقدم علي اعتراف خطير :
ـ سوف أزيل هذا الإبهام .. أنصت إليَّ .. أنا أحببت سيدة قبل أن أتزوج من هذه البنت , وكنا كل حين نتشاجر ثم نفترق وبعد فترة قصيرة يتدخل أحد الأصدقاء ويتوسط بيننا فنتصالح وتعود المياه لمجاريها وبعد فترة نتشاجر ثم نفترق فما أن تعود مشاعر الود بيننا حتى تنقطع دون إنذار مسبق , ولا أكذبك القول أنه في آخر مشاجرة بيننا أقسمت يمينا مغلظا ألا أعود إليها ! ومرت علي نفسي أيام تعسة , لا بل شديدة التعاسة فأهملت كل شيء ونال مني الحزن وقصصت ما حدث علي احد أصدقائي , فأُخذ بما حدث والحق أقول لقد كنت أمر وقتها بحالة نفسية متردية ! فتأثر صديقي بشدة .
قال “رؤوف” ذلك وهو هامسا ويتلفت ليرى إن كان احد الجالسين في المكان يتابع حديثنا ولكن ما ملأ نفسه شعور الطمأنينة بأن احد ما لا يتنصت علي حديثه وقال : فأشار عليَّ أن أتزوج بأخرى كي أكيدها وفي نفس الوقت تمثل سلوي لي كي أنساها ..
قصدت احد الأصدقاء عرفني علي هذه الفتاة , فتقدمت لها وطلبت يدها من زوج أمها
وبعد أن أخذ نفسا عميقا من سيجارته وأطلق دخانه عاليا التقت نظرة عيني بنظرة من جانب عينيه وقال مستطردا :
الخلاصة .. تزوجتها ! ولكن بمرور الوقت وجدت نفسي غير قادر علي أن أنسي الفتاة التي أحببتها , فالتقينا وتحدثنا كثيرا وعاتبتها وعاتبتني , وطلبت منها نصل ما انقطع , فوضعت أمامي شرط لقبول الزواج , وهو أن أطلق زوجتي ..
وكمن أراد أن ينهي موضوعا طال الجدل واللغط فيه دونما نتيجة سريعة , تحفز ليلقي بكرة اللهب ما بين ملابسي وصدري قال :
الكلمة الفصل في هذا الأمر هو أنني أنتوي العودة إليها .. ولكن زوجتى تقف حائلا أمام تحقيق هذه الرغبة العارمة , أريد أن أطمئن عليها قبل أن أفارقها .. ما رأيك في أن تتزوجها ؟ لقد فكرت في أنك الزوج المثالي لها , ستكون أمانة في عنقك يا “محمد ” !
وحينما لاحظ مُحدثي أنني سرحت بعيناي وعقلي بعيدا فاجأني بقوله :
ـ فيما تفكر يا رجل ؟ لا تفكر كثيرا ..! أنصت لحديثي .. الفرصة لا تأتي في العمر إلا مرة واحدة فلا تضيعها يا رجل ! ثم مد يسراه وجذبني من مرفقي في حركة مباغتة وقال :
هات يدك كي نقرأ فاتحة الكتاب ..!
لم يدع “رؤوف” لي أي فرصة للهروب أو الفكاك من هذا الفخ , فأمسك ساعدي بيده اليسرى ووضع راحة يده اليمني في يدي وقال : الفاتحة ..
بدأ في قرأ الفاتحة وهو يمعن النظر في عيناي ويضغط براحة يده بقوة علي راحة يدي كأنما يستحثني علي قبول الهدية وما أن وصل إلي نهاية سورة الفاتحة علا صوته كأنما يؤكد أن الأمر قد خرج من يده وأنتهي : آآآآمين .. ومسح براحتيه علي صفحة وجهه ثم انتصب واقفا وقد لاح البشر علي سيماءه فقد وجد حلا لمشكلة ـ لطيبة قلبه ورقة مشاعره ـ أرقت فؤاده وقال : مبروك .. ألف مبروك عليك مراتي ..!