جلس على رصيف الشارع والناس تمر به بسرعة غير مكترثة مثلها مثل ذكرياته التي لا تتوقف عن الدوران في رأسه، فنظر لحقيبة المال فى يده قائلاً :
هل بعت ابنتك يا سعيد ؟!
هل أعطيت روحك لغيرك يفعل بها ما يشاء؟!
عاد السؤال يقتله مرة أخرى فى صمت:
هل فرطت فى كبدك حقا ؟
-لا ..لم أبعها..بل أعطيتها فرصة لتحيا..
ثم قام صارخاً بكل قوته:
-بل أصبحت ابنتي تملك فرصة لتحيا أفضل ..ولكى يحيا البقية ..لابد أن يحيا البقية ……يحيا البقية.
أفاق ناظرا نظر حوله حيث الوجوه الفارغة من الملامح ..والأيدى المهتمة فقط بما ستأخذه..لا أحد يهتم ،
فكلهم مربوطون بحبال الأمانى ..تجرهم الدنيا جرا، حتى أن أرواحهم شاخت وعجزت قلوبهم أن تشعر بوجع الآخرين أو قل تشعر ولا تهتم
أوربما تهتم لكنها لا تجد مالاً يسعفها أو وقتاً تضمد فيه وجع غيرها .
ثم ارتمى على الأرض باكياً كأن به نوبة صرع، كان يشعر بالخزى من نفسه التى تمزقت بين أنياب الحياة وبين ابنته..لم ير نفسه سوى أب تحول لبائع ..
ومن البضاعة!
صغيرته التى جعلها تدفع ثمنا لجرم لم ترتكبه . وعندما عاد لنفسه الهاربة من نفسه نظر للناس ثانية، لكنهم كانوا كما هم ،يمرون بسرعة مثلهم مثل كائنات آلية مبرمجة تسعى خلف سراب لن تدركه قبل أن يسرقها الموت المتربص بها بين جنبات الطريق،
فجأة توقف الناس وتسمرت الأجساد ،وهدأت الأصوات إلا صوت عقله يصارع القلب المتعب،
وكالعادة ينتصر القلب غالبا ،ويعلو صوته منفرداً ليعود “سعيد” بعد حربه النفسية تلك منتفضا كى يعود لابنته يتأسف إليها ويحتضنها بينما ينظر باحتقار لحقيبة المال فى يده ،ولكن سيارة مسرعة هى التى احتضنته ولملمت شتات نفسه حين صدمته ..حينها خرجت صرخة من قلبه لتخرج معها روحه المتعبة ،وليخرج المال متناثرا من الحقيبة فيجتمع كل من يمر على المال بين جامع وفرح أشد بورقات ملونة ،وحتى الدماء المتناثرة على العملات لم تمنعهم من التكالب عليه ،فعندما تشتد الحاجة يقصر النظر ،ونتجنب المنطق ، وتقسو النفوس أن ترى آلام غيرها من البشر ، ،ولم يره سوى فتاة تبيع المناديل..تلك الصغيرة التى كان يلاطفها كل يوم فى طريقه ،كانت هى الوحيدة التى صرخت من أجله وخافت بل خافت بشدة فتقوقعت على نفسها
،فمن الصعب أن تفقد الصغيرة العين الوحيدة التى رأتها من قبل بل وتعاطفت مع طفولتها المسلوبة ،فكلاهما نادراً ما يراه أحد ..كأنه فراغ فى كون لا يعترف سوى بالمادة .
احتضن الاسفلت أخيراً الروح المتعبة كأن الطبيعي أن تحتضن الطرقات أجسادهم المهترئة وقلوبهم الذابلة .
بقلم هيام علي بيومي